يقول الله عز و جل”و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة”
ما من شكّ أنّ الإنسان يقف متعجبًا ومفتخِرًا بهذه الصناعات العسكرية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية؛ رغم أنّها تعيش تحت الحصار منذ أكثر من 17 عامًا. وبالرغم من ضنك قلة الإمكانات وصعوبة الظروف الأمنية، أبدعت المقاومة وقامت بإنتاج أسلحة محلية أثبتت قدرتها على تكبيد الاحتلال الإسرائيلي خسائر فادحة من خلال الفتك بآلياته العسكرية، مواجِهةً أسلحته التي تعد خلاصة خطوط إنتاج عسكرية تكنولوجية متقدمة.
وفي الحقيقة يقف خلف فكرة الصناعة العسكرية المحلية عقلية تمتلك إرادة قوية جدًا، وتدرك في الوقت نفسه أهمية الاستقلالية، وامتلاك القدرة على الصناعة وتطويرها واستخدامها ومفاجأة العدو عبرها، وهذه العقلية هي اللبنة الأولى في بناء مشروع الصناعات العسكرية، وما من شكّ أنها أيضًا مرّت بعملية صناعة أخرى، وبخطوط إنتاج نوعية.
يعتبر مفهوم القوة مفهومًا جوهريًا في العلاقات والصراعات، ومع تقسيم القوة إلى قوة صلبة وقوة ناعمة، وحديثًا إلى قوة ذكية تجمع بين القوتَين: الصلبة والناعمة، فإننا نجد هنا أن عنصر الإرادة هو العامل المشترك بين كل أنواع القوة
كما أفادت المقاومة، عبر بياناتها، فإن جُلّ الصناعات التي قامت بها المقاومة- من صواريخ، ومضادات للدروع، وراجمات ومدافع، وقنابل بمختلف أنواعها، وبنادق القنص، وحتى الرصاص- هي من الصنع المحلي.
ومع ذلك تقرّ المقاومة بأنّ هذه الصناعات لم تكن لتجدي نفعًا – أمام الترسانة الأميركيّة الهائلة التي تواجهها المقاومة في أيدي مرتزِقة الصهاينة في الميدان – لولا صناعة أخرى أهم أسماها الناطق باسم كتائب القسام “أبوعبيدة” صناعة الإنسان الفلسطيني المقاتل الذي لا تقف أي قوة في الأرض أمام إرادته وإصراره على مواجهة قاتلي أجداده وآبائه ومدنّسي مسراه ومحتلّي تراب وطنه.
وفي الوقت نفسه، يترافق مع بناء المقاتل الميدانيّ العسكري- الذي لديه الاستعداد والإيمان للبقاء في عقدته الدفاعية لأشهر ينتظر العدوّ- بناءُ إنسان فلسطيني لديه القدرة على الصمود، ولديه الوعي بأهمية المقاومة وقدسية المعركة من أجل المقدسات والأرض، والوعي بالمخططات الخبيثة والحرب النفسية التي توجه لتدميره معنويًا، ولديه الجاهزية للتضحية بأعز ما يملك في سبيل الأهداف العليا.
الإرادة والقوة الصلبة
إن الحديث هنا عن دور الإرادة في عملية الصمود، والحديث هنا ليس عن أمر عاطفي ومعنوي فحسب، بل إنّ الإرادة هي من مكوّنات القوة الشاملة، وعلى سبيل المثال فإن كارل فون كلاوزفيتز- وهو عالم عسكري ألماني قد تركت كتاباته حول الفلسفة والتكتيك والإستراتيجية أثرًا عميقًا في المجال العسكري في البلدان الغربية، وما زالت تدرّس أفكاره في العديد من الأكاديميات العسكرية – رأى أنّ الإرادة هي أحد المكوّنات الأساسية للقوة العسكرية. بل إنّ كلاوزفيتز اقترح معادلة لحساب القوة العسكرية لدولة ما بأنها حاصل ضرب الإرادة والإمكانات.
ورأى أنّ الإرادة هي الرغبة في القتال والنصر، بينما الإمكانات هي الموارد المادية والبشرية المتاحة للدولة. وعند هذه النقطة يمكننا القول بلا أدنى شك؛ إن إرادة التحرر والانتصار لدى المقاومة والشعب الفلسطيني أكبر بكثير من تلك الموجودة لدى جيش الاحتلال.
أما جوزيف فرانكفورت- وهو عالم أميركي- فرأى أن القوة هي حاصل ضرب الإرادة والموارد والشرعية. وعرف الشرعية بأنها الاعتراف بسلطة الدولة من قِبل الشعب. وهنا أيضًا تجد الإرادة موضعها المتقدم بجانب الموارد والشرعية، ويمكننا القول في الحالة الفلسطينية أيضًا؛ إن معامل الإرادة هنا يعمل كرافعة لحاصل مجموع القوة، بحيث يغطي جزءًا من العجز عند المقارنة بين الإمكانات المادية.
القوة الناعمة للمقاومة
يعتبر مفهوم القوة مفهومًا جوهريًا في العلاقات والصراعات، ومع تقسيم القوة إلى قوة صلبة وقوة ناعمة، وحديثًا إلى قوة ذكية تجمع بين القوتَين: الصلبة والناعمة، فإننا نجد هنا أن عنصر الإرادة هو العامل المشترك بين كل أنواع القوة.
ولهذا عندما ننظر إلى معادلة العالم السياسي الأميركي كينيث ويلز لحساب القوة الناعمة للدولة، فإنه يتجاهل الإمكانات المادية تمامًا، ويرى أنها حاصل ضرب الإرادة والجاذبية. ويعتبر الإرادة أنها الرغبة في تحقيق الأهداف السياسية، والجاذبية هي القدرة على جذب الآخرين لهذه الأهداف.
وفي سياق الحديث عن القوة الناعمة هنا للمقاومة الفلسطينية، فإننا نقول بكل وضوح؛ إنها تجاوزت الجغرافيا الفلسطينية لتصل إلى كامل الجغرافيا العالمية، وربما لم تحصل حركة تحرر خلال الأربعة عقود الماضية على مثل هذا التضامن والرغبة في الدعم، كما أنها حققت حالة من الجاذبية من خلال أدائها العسكري والإعلامي والأخلاقي وصلابتها وتكتيكاتها.
كما أنّ الشخصية الأبرز للمقاومة الفلسطينية حاليًا والأكثر جذبًا هي شخصية الناطق العسكري “أبوعبيدة” والذي ما فتئ يشحن بطاريات الإرادة للشعب في حديثه، ويشير إلى صمود الشعب وتضحياته الأسطورية كمصدر طاقة متجدد لأداء المقاومة في الميدان. وقد أصبح “أبوعبيدة” رمزًا عالميًا يتطلع إليه الجيل الصاعد في كل أنحاء المعمورة، ويتشوقون لكل خطاب جديد منه، وهو ما يسمى في أدبيات القوة الناعمة بكسب العقول والقلوب.
وفي هذا السياق، نستحضر نظرية العالم جوزيف ناي الذي أشار لقدرة القوة الناعمة على تحقيق الأهداف من خلال الجاذبية والتأثير، ولعل القيم والأخلاق والثقافة التي رآها الناس في تعامل المقاومة مع الأسرى -على سبيل المثال- ساهمت في كسب المقاومة للعقول والقلوب على مستوى عالمي.
الإنسان الفلسطيني والقوة الشاملة
ولكن بكل الأحوال فإن النموذج العام لحساب القوة الشاملة، هو حاصل ضرب الإرادة والإمكانات، وعوامل أخرى، مثل: الثقافة والقيادة والإستراتيجية والشرعية والجاذبية، وعليه فإن الإرادة هنا تكون قيمتها واحدًا أو صفرًا، وبالتالي ليس من المستغرب أن تنتصر فئة قليلة على فئة كثيرة العدد والعتاد والإمكانات.
إن صناعة الإنسان الفلسطيني المقاتل- سواء على المستوى العسكري، أو على المستوى المدني- هي صناعة يفتخَر بها، فذلك الإعلامي الفلسطيني الذي يقاتل في مجاله وتغطيته- رغم كل هذه الأهوال- هو صناعة فريدة ويمكن الحديث- على سبيل المثال- عن مراسل الجزيرة وائل الدحدوح، وإصراره على المواصلة برغم كل شيء. ويمكن الحديث عن الطبيب الفلسطيني منير البرش وزملائه من العاملين في القطاع الصحي والإغاثي، ويمكن الحديث عن الأم الفلسطينية، والطفل الفلسطيني، فهذه هي الصناعة الأهم.
أمام هذا العطاء والصمود والعظمة والإيمان بعدالة القضية، لن تفعل التكنولوجيا التي يمتلكها الاحتلال شيئًا في تغيير مسار هذا الشعب نحو التحرير، ولو تم ضرب مصانع الصواريخ والقذائف، فإن مصانع إنتاج الفلسطيني المقاوم لا يمكن ضربُها